يروي أحد المدرسين في دار الملاحظة -وهي دار مخصصة للأحداث الذين يرتكبون الجرائم الأخلاقية أو غيرها من الجرائم- يقول:
من أعجب الحالات التي قابلتنا في ميدان العمل الاجتماعي حالة (حَدَث) كان موجوداً لدينا في الدار محكوماً عليه في قضية (أخلاقية). فبعد انتهاء مدته في الدار قمت بإبلاغه بانتهائها وأنه سيُطلَق سراحه في الأسبوع القادم ومطلوب منه إبلاغ أهله في الزيارة لإحضار الكفالة اللازمة… فانخرط الحدث في بكاء شديد ظننت في البداية أنه دموع الفرح لخروجه من الدار ولكن استمرار البكاء وتعبيرات الحزن والقلق على وجهه جعلتني أنتحي به بعيداً عن إخوانه وأسأله عن سبب ذلك… فإذا به يقول: لا لأريد أن أطلع من الدار... أرجو إبقائي هنا…!! ماذا تقول؟ قلتها وأنا في دهشة… قال: أريد أن أبقى في الدار فالدار بالرغم مما بها من قيود لحريتي فهي أفضل من بيت أبي…!!
قلت له: لا شك أنك مخطئ… فلا يوجد مكان أفضل من منزل الأسرة… رد قائلا: اسمع قصتي واحكم بنفسك.
قلت: هات ما عندك.
بدأ الحدث ابن الثالثة عشرة يروي قصته فقال: توفيتْ والدتي منذ حوالي ثمانية أعوام وتركتنْي أنا وشقيقة أصغر مني بعامين وبعد وفاتها بعدة شهور أبلغني أبي أنه سيتزوج… وستكون لي خالة في مقام أمي… لم أستوعب جيداً لصغر سني هذا الكلام… وبعد حوالي أسبوع أقام والدي حفل عرس كبير وجاءت زوجة ابي إلى المنزل.
عاملتنا خالتي في بداية الأمر معاملة طيبة ثم بدأت معاملتها تتغير بالتدرج فكانت دائمة الشكوى لوالدي كلما عاد إلى المنزل من عمله… فتقول له: ابنك عمل كذا وابنتك سوّت كذا… ولم يكن أبي الذي يعود مرهقاً من عمله لديه استعداد لسماع المشكلات وحلها كما أن صغر سننا وضعف قدرتنا أنا وشقيقتي على التعبير لم يكن يسمح لنا بالدفاع عن أنفسنا أمام القصص التي تختلقها زوجة أبي وتجيد حبكها وروايتها.
في البداية كان أبي ينصحنا وأحياناً يوبخنا… ثم تطور الأمر مع استمرار القصص والشكاوي إلى الضرب والسباب والإهانات وازداد الأمر سوءاً بعد أن رزق أبي بثلاثة أولاد من زوجته… وبمرور الأيام تحولتُ أنا وشقيقتي إلى خدم بالمنزل علينا أن نلبي طلبات خالتي وأبنائها فأنا مسئول عن شراء كل ما يحتاجه البيت من السوق وشقيقتي مسئولة عن التنظيف والعمل بالمطبخ… وكنا ننظر بحسد إلى أبناء أبي الذين يتمتعون بالحب والتدليل وتستجاب رغباتهم وطلباتهم… وكان أبي يشعر أنني أنا وشقيقتي عبء عليه وعلى سعادته، وأننا دائماً نتسبب في تكدير جو البيت بما تقصه عليه خالتي من قصص مختلقة عنا… وكان رد فعل أبي السباب الدائم لنا، ونعتنا بالأبناء العاقين… وأنه لن يرضى عنا إلا إذا رضيتْ عنا زوجته وأبناءه… كما أطبق علينا النعوت السيئة، وكان الجميع بالمنزل ينادوننا بها حتـى كدنا ننسى أسماءنا الحقيقيـة… وكنا محرومين من كل شيء -حتى المناسبات التي تدعى إليها الأسرة- كنا نحرم منها ولا نذهب معهم. ونجلس وحدنا في الدار ننعي سوء حظنا.
وهناك حادثة لا أنساها حدثت في الشتاء الماضي فقد أحسستُ بتعب شديد في بطني وطلبتْ مني خالتي أن أخرج لشراء خبز للعشاء… وكانت البرودة شديدة فقلتُ لها إنني مريض ولا أستطيع الخروج الآن فقالت لأبي إنني أتمارض حتى لا أقوم بما هو مطلوب مني… فانهال أبي علي ضرباً وصفعاً وركلاً حتى سقطتُّ من المرض والإعياء واضطروا إلى نقلي إلى المستشفى عندما ساءت حالتي ومكثتُ في المستشفى خمسة أيام وعلى الرغم من الألم والتعب فقد استبشرت خيراً بهذه الحادثة وقلت لعلها توقظ ضمير أبي وتجعله يراجع نفسه إلا أنه للأسف استمر على ما هو عليه… وبدأت بعد ذلك أعرف طريق الهروب من المنزل… والتقطني بعض الشباب الأكبر سناً وأظهروا لي بعض العطف الذي كنت في حاجة شديدة إليه… ومن خلال هذه المشاعر المزيفة استطاعوا خداعي… وانزلقتُ معهم في الانحراف الأخلاقي ولم أكن أدرك بشاعة ذلك لصغر سني وعدم إدراكي… ثم قبض علي في قضية أخلاقية وأدخلت الدار، وعرفتُ فيها مقدار الخطأ الذي وقعت فيه… وأحمد الله على توبتي… فهل أنا على حق في بكائي وحزني وتمسّكي بداركم أم لا؟… وسكتُّ بعد أن أثقل ضميري بالحمل الذي ينوء بحمله الرجال فكيف بطفل لم يبلغ مرحلة الشباب؟ ومن المسئول عن هذه المأساة؟… هل هي زوجة الأب التي لم ترع الله في أبناء زوجها، أو هو ذلك الأب الذي لم ترع الله في أبناء زوجها، أم هو ذلك الأب الذي أنسته زوجته الجديدة عاطفة الأبوة وأبعدته عن العدل وجعلت منه دمية تحركها بخيوط أكاذيبها وألاعيبها.
وشرد خيالي بعيداً وأنا أتخيل لو أن هناك سوقاً يختار فيه الأبناء الأباء الجيدين لدفع هذا الحدث كل ما يملكه ثمناً لأب جيد ولكن… كم يساوي رجل مثل أبيه الحقيقي في مثل هذا السوق.